احمد مصطفى
عزيزي/عزيزتي في المجتمع الإسرائيليّ، سلام!
تستقبلونَ اليوم رسالتي من قلب قطاع غزّة، من أقصى جنوبه، هنا مدينة رفح، المدينة التي يتجمّع بداخلها أكثر من 1.4 مليون فلسطيني نازح، منهم مَن فقد أطفاله، أو أحد والديه، أو أقاربه وأحبابه، تمامًا كما أخاطبكم اليوم كواحد منهم، ليس بصفتي صحفي ينطق بلسان السّلام الذي يؤمن به، بل بصفتي المواطن الفلسطيني الذي يبحث عن عاقل يستمع إليه بين أحداث مليئة بالجنون، فأنا المواطن الذي أُجبر على مغادرة منزله من خان يونس إلى رفح، والذي يبحث منذ شهرين عن دواء لوالديه المصابَين بمرض الضغط المزمن، وأنا الذي يبحث أيضًا عن خيمة لتأمين عائلته فيها، ولا يعلم أين سيذهب بها بعد أن يقرر الجيش الإسرائيليّ البدء بعمليّة اجتياح رفح.
هنا في رفح، لقد أنشأ المدنيّونَ خيامهم في المقابر، فلم تعد هناك مساحة داخل المدينة الصغيرة التي تضاعفَ عدد سكّانها أربع مرّات، ولم تعد الحياة هنا تستحق أن ندعوها حياةً ذات أُفق حاضر ومستقبل منظور، ولكم أن تتخيّلوا حتى أوراق الكتابة لم تعد متوفّرة، فأغلب الناس قاموا بحرق جميع ما لديهم من أوراق ومكتبات منزليّة لأجل طهي الطعام لأطفالهم، حتى أنّ هناك مَن أحرقوا رسائلهم الجامعيّة التي حصلوا من خلالها على ألقابهم العلميّة، تمامًا كما أحرقت الحرب جامعاتهم ومؤسساتهم التعليميّة بلا أيّ بوادر لتوقيت إعادة الإعمار، ببساطة: إنّها الحرب التي لم يكونوا يومًا طرفًا داخلها، لكنهم يدفعونَ ثمنها بأغلى ما يمتلكونَ من إنجازات، في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
في السّابع من أكتوبر، كنّا نشاطركم الحزن بوقوع الضحايا المدنيين الإسرائيليين، وفي السّابع والعشرين من أكتوبر، كان الجيش الإسرائيليّ لا يزال يُطالب المدنيين الفلسطينيين بالتوجّه إلى خان يونس، فكان يراها (منطقة آمنة)، وفي ذات اليوم، ألقت الطائرات الحربيّة صواريخها على (المنطقة الآمنة)، وأصاب أحدها منزل عمّتي بعيدًا عن منزلنا بـواحد كيلومتر فقط؛ فقُتلت عمّتي "سميرة" (38 عامًا)، وقُتل ابنها "شريف" (15 عامًا)، وقُتلَ زوجها "توفيق" (40 عامًا)، جميعهم مدنيّون، وجميعهم رحلوا في ثانية واحدة، وتمكّنا -ما استطعنا- من جمع أشلاء "شريف"، لندفنه لاحقًا برفقة والديه في مقبرة العائلة داخل مدينة خان يونس.
إنّ كلّ يوم تستمر فيه الحرب على قطاع غزّة هو يوم يُساهم أكثر فأكثر في تقويض فُرص السّلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفقدان الأمل تحديدًا لدى الفلسطينيين الذين يخسرون مثلي العديد من الأرواح كلّ يوم، فلا تساهم الحرب إطلاقًا في القضاء على الفصائل المسلّحة؛ لأنّ الذي يبدو في الصورة هم المدنيّون فوق الأرض، أما العسكريّين فإنهم يحتمونَ في الأنفاق تحتها، ولا يتأثرون بما يجري علينا فوقها، بل وأعلنوها صراحةً عبر وسائل الإعلام، بأنّ حمايتنا كمدنيين تقع على كاهل الأمم المتّحدة ولا تقع عليهم.
تجدر الإشارة إلى أنّ متوسط معدل الأجور اليومي في غزّة قبل الحرب كان يبلغ (30 شيكلًا فأقل) للعامل يوميًّا، ومع دخول الحرب وعدم وجود مصادر دخل للعاملين بعد تدمير مصالحهم ومنشآتهم؛ بلغَ الغلاء هنا مستويات لا يمكن لأحد أن يتصوّرها، وأكاد أُجزم بأنّ قطاع غزّة أصبح أكثر مكان غلاءً في العالم مقابل الحصول على المقوّمات الحياتيّة الأساسيّة، حيث يستعد عدد كبير من النّاس بشكل جدّي لبيع (كِلى) أجسادهم مقابل شراء مستلزماتهم التي تضاعفت أسعارها 300-2500%، أو الخروج من غزّة بحثًا عن الأمان بعيدًا عن ويلات الحرب.
هنا رفح، حيث تقول فتاة: "كان من المفترض أن يكون حفل زفافي الأسبوع القادم، لكنّ خطيبي لازال تحت الأنقاض"، وتقول سيّدة: "هذا حملي الأوّل منذ ١١ عامًا، ومات طفلي في بطني نتيجة سوء التغذية وقلّة الطعام، وشعرت بالموت خلال إنجابه وهو ميّت"، ويضيف رجل آخر قائلًا: "عشتُ ١٥ عامًا وأنا أسعى لتسديد ثمن شراء شقتي في البرج، وانتهيت من سداد القسط الأخير في أغسطس الماضي، وجاءت الحرب لتدمّر البرج وتسوّيه بالأرض". ويجلس طفل بجوار أمه بعد أن فقد قدمه إثر إصابته بشظايا صاروخ من الطيران الحربي، فيسألها: "هل ستنمو قدمي من جديد يا أُمّي؟"، ويقف رجل يحترف الكذب على زوجته، فيقول لها: "إنّ شبكة الاتصالات الخلويّة منقطعة؛ لذلك لا أستطيع أن أُطمئنكِ على الأولاد الذينَ بقوا في خان يونس"، ولن يستطيع أن يخبرها الحقيقة؛ لأنّهم قُتلوا في غارة جويّة وقام بدفنهم في خان يونس قبل أن يغادر مع زوجته إلى رفح.
كل ما هنا يدعو للقهر، وفي الحقيقة إنّ النّاس يتمنونَ الموت، إنّه أرحم بالنسبة إليهم من كل هذا الوضع الذي لا يطيقونه ولا يستطيعونَ احتماله، ففي الرّابع عشر من فبراير هذا العام، خرجَ صديقي (براء) من خيمته صباحًا، متوجّهًا للمكان الذي يشحن منه هاتفه المحمول هنا في رفح، فرأى في طريقه طفلًا بعمر 6 سنوات، نائمًا تحت شاحنة في الشارع، وجلدهُ أزرقًا من شدّة البرد؛ فأيقظه صديقي وسأله عن سبب نومه تحت الشاحنة، فأجاب الطفل: "تعرّضَ أهلي للقصف في رفح، ولم أكن بينهم حينها، فنجوتُ وهم رحلوا، فأتيت إلى هنا تحت الشاحنة على أمل أن يقودها السائق صباحًا ويدهسني دون أن يراني، أريد ذلك حتى أموت وأذهب للسّماء عند أهلي". فأخذه صديقي من تحت الشاحنة وانطلق به إلى نقطة طبيّة ملاصقة لمستودعات وكالة الأونروا، وذلك من أجل إسعافه والمساعدة في الوصول إلى أيّ أحد من أقاربه، ثم ذهب صديقي لشحن هاتفه، وعندما عاد للنقطة الطبيّة حتى يطمئنّ عليه؛ أخبره الأطباء أنّ الطفلَ قد ماتَ مِنَ البرد.
السّادة الحضور، إنّ عليكم مسؤوليّة إنسانيّة ثقيلة، لكنّكم أهلٌ لها -إن أردتم ذلك-، فكما كنّا طوال حياتنا نتصدّى لكل مَن يحاول إنكار المحرقة النّازيّة والإبادة الجماعيّة بحق اليهود، فأمامكم اليوم خيار التصدّي لكل مَن يعمل على تحقيقها ضدّنا في غزّة، فكيف يمكن إقناع السيّدة "تالي غوتليف" بأنّ تجويع وتعطيش أهل غزّة الذي تريده أدّى لوفاة عدد كبير من النساء والأطفال في شمال القطاع بلا ذنب؟ كيف يمكننا إقناع السيّد أميخاي إلياهو بأنّ هناك فلسطينيين ينادون بالسّلام من قبل ٧ أكتوبر؟ وكيف يمكن أن يكون هناك مستقبل للسّلام بينما يصرّح برغبته ضربنا بقنبلة نوويّة؟ وكيف يمكننا أن نتحدّث عن المستقبل في الوقت الذي يستمر فيه الجيش بالقضاء عليه عبر قتل أكثر من 14 ألف طفلًا منذ بداية الحرب؟ كيف وكيف وكيف، والكثير من علامات الاستفهام.
إنّ هذا الخطاب ليس استجداءً لأحد، فنحن بلا شك ضعفاء ونحتاج إلى حماية، من الاحتلال، ومن كل مَن يتاجر بدمائنا لأجل مصالحه الحزبيّة، ولكنه خطابٌ مفتوحٌ لكل مَن لديه إنسانيّة في قلبه، بأن تعرفوا أنّ لديكم الحق الكامل بمعرفة الحقيقة الكاملة منّا وأن تتصرّفوا بناءً عليها بما تُمليه عليكم إنسانيّتكم بالمطالبة بوقف إحدى أقسى الحروب التي عرفتها الإنسانيّة في الزمن الحديث، وإن رحلنا خلال هذه الإبادة ولم تعد تصلكم رسائلنا، فتكلّموا عنّا ولا تفقدوا الأمل بوجود مَن ينشدونَ السّلامَ مثلنا، وينادونَ بإنهاء الاحتلال وتحصيل الحقوق المدنيّة حتى آخر أنفاس في صدورهم.
بإخلاص،
أحمد مصطفى
رفح – قطاع غزّة